تماثلات الذات وتشظّياتها في رواية علي هليل السوداني “مَن قال إننّي سأنسى”

0
17
حسن عبدالحميد
“أن من المؤكّد ،ليس هنالك شيىءٌ مؤكّد”
-هيجل-
يرى علماء النفس الإجتماعي بأن قوة ذاكرة الفرد أقوى-بكثير- من قوة ذاكرة الجماعة،كون الأولى تتمركز عند الفرد وتُحفظ في أرشيفه الخاص،فيما تتشوّه أو تتشظّى الثانية لتتباين لدى مجموعة من الناس،كُل ينظر إليها من زاويته وطريقة فهمه ومناسيب وعيه،وإذا كانت عبارة المُتصوّف محمد بن عبدالجبار النُفّري تقول؛”كلّما أتسعت الرؤيا،ضاقت العبارة “،فأن نظريات الإعلام الحديث ترى بتباين زوايا النظر لأي حدث أو موضوع أن الصورة الحقيقية ستتضّح وتتبلّور أنقى وأكثر،وصولاً إلى جوهر الحقيقة، والحقيقة هي الضحية الأولى في أي نزاع وصراع،يجتاحني مثل هنديّ يقول بشكل قاطع؛ “الحقيقة لا تنفع”،ربما من -هنا- تتقافز مقولة “هير قليدس” الناصحة بالقول؛”في بحثك عن الحقيقة كُن متأهباً دوماً لما هو غير متوّقع،لا الحقيقة منهمكة في البحث عن نفسها”،ومن جانب أقرب لما نسعى ونروم سيظل السؤال الأهم -هنا- يدور ويتبلّور ويتمركز،وهو ما أنفك يؤشر صوب مراميه؛عن أيّ حدِّ ومدى أصاب الروائي “علي هليل السوداني” قلب الحقيقة في بنود وسرود روايته التسجيلية،الماثلة إلى ملامسة السيرة الذاتيّة والحاضنة لعنوان”من قال إنني سأنسى” الصادرة -حديثاً-عن دار الصحيفة العربيّة في دمشق بعدد صفحات تربو على 394 صفحة من القطع المتوسط؟!
قوة يأس..قوة إرادة
—————————-
ينطوي سؤال مثل هذا،من باب كون الأسئلة مفاتيح ،بحسب ريلكَه- على قدرٍ مترع من فيض التحفيز وثقة التمييز لما أتسمت به الرواية من فرض هيمنة أحداث متداخلة غنيّة مائلة على مدّ مواقف جريئة وصعبة،مسكونة بهواجس حالات إنسانيّة أضحت هي الأخرى صادمة وثريّة من فرط تخمة أوجاعها وسوانح بعض شواحب مسرّاتها وفق أفق التحديات الواقعة في دوائر اليأس أكثر ممّا هي في دائرة الإرادة وثبات الموقف،
فضلاً عن تنامي و تداخل ما هو جمعي وعام ،وبما يقابلها ممّا هو شخصي، جاء يتجلّى لينوء بما حملته ذاكرة السارد من هيمنة تفاصيل ونوازع تفصيل لتلك المجريات التي أقتطع وأقتفى وأنتقى منها الكاتب-والذي هو إيضاً إعلامي وفنّان موسيقي وشخصيّة تحفل بحضور ثقافي،معرفي،إجتماعي وإنساني- أربعة عقود عاشها وشهد أدق مرارات تفاصيلها للفترة التي سبقت الحرب العراقية-الإيرانية بأشهر قليلة 1980-1988،ومن ثم أمتدت حدود الرؤيا والتدخلات والمُعطيات لأبعد من ذلك حِدر حماقة غزو العراق للكويت آب/1990،وبالتالي صولاً لهول ما حصل وشاء حدث من تداعيات وتشظيات الإحتلال الامريكي البغيض للعراق في حرب الربيع عليه في نيسان /2003 ،وما جلى وجلب من ويلات وكوارث على أثر سقوط وإنهيار النظام فيه، وتصدّع الحياة تحت طائل “الفوضى الخلّاقة”.
تفاصيل الآسى
——————
سيبدو الخوض في أحداث و تفاصيل رواية “علي هليل السوداني” ليس بالأمر السهل أواليسر لفرط ما جرى من شرح وتوغل ولوذ في أدق ثنايا تلك الأحداث والمعلومات،بل وحتى التعليقات التي كان يتبعها بطل الرواية “علاء”كما وأن ذلك سيكون أمراً غير مجديِّاً و مناسباً من الناحيّة الإجرائيّة والتحليليّة- حتى في أحسن حالات التقييم والإشادة،وهي تستحق،بجد- ليس لكونه العمل الأول للكاتب في مجال السرد لهذا الكاتب،بل لما أرتهن وأكتنز وأثرى في تعميد بقاءها “أي الرواية” في مأمن عن مسِّ من تأثير وتشابه و تقليد فيما يتعالق ونواحي إتباع أُطر وأنساق السرد التقليديّة،بالاخص فيما يُعرف بأدب السجون وتلمحيات أثار ونواتج أنواع التعذيب من تلك التي تتبعها الأنظمة الشمولية والدكتاتورية -بوحشيتها المألوفة وغير المألوفة -بكل ما تملك عنجيهة وتطاول وصلف وسخط في الحطّ من قيمة الإنسان وهدر كرامته،تحت طائل حجة الاحتفاظ الكافي بالسلطة أو تحت أي مسمّى ومسعى وتخريج لا يقنع غير نوايا وقناعات الجلّاد،تضاف إلى ذلك طبيعة الحالة البانروميّة،التداولية التي أتبعها السارد بكل ما يشي ويشفع على حمل الكثير والمثير من براعة الجهد وكثافة التركيز وتثمين نواحي التحليل ودقة الفهم لمجريات ما جرى،له في سجون ومعتقلات النظام السابق أبان الحرب مع إيران،
وكيف يُسفر ليكشف عن بشاعة وجه قاسٍ وقبيح لا يتوانى بالتفنّن والسعي لإبتكار وسائل إذلال وإذعان مع كل من يختلف ونهجه،مهما كانت الأسباب واهنة و مفتعلة،بل وحتى تافه.
الضحيّة البريئة
——————
يُشيّد علي هليل السوداني معمار شواهق وعيه سعيّاً وأملا منشوداً في تقريب أثر ومديات قدراته الإدائية وتطلعاته الإنسانيّة المحضة،عبرمهام عمله الملفت والمختلف هذا،والراسخ على نهج ومنوال إتباع سُبل ورسم حقائق جُلّ غاياتها مجانبة الحقيقة وإنصافها والسير على جمراتها بمثول وتحدٍّ واثق مشفوع بنبل ووفاء خاص لمجمل ما تناول من أحداث عاشتها شخصية الضحية البريئة “علاء” فهو السارد والصوت الأسمع من بين جميع الشخصيات،من خلال ما توارد وجاء على مرام ذهنه وسند ذاكرته اليقظة والحريصة على نقل الموقف و الموقف،بدقة وحرص على الرغم من مضي كل هذه الأعوام بمتغيرات مجاريها وتنوّع تداعياتها ونواهل مخرجاتها و واقع ما آل إليه عراق اليوم، حيث شاء ينهل من نسيج وتوافدات وعيه مستشفاً من محتويات أرشيفه الوجداني و النفسي والإنساني بوجه خاص،ما تعرّض إليه وما رأى وعاش من خوانق ظروف وملابسات ما واجهه في معتقلات الحاكمية والاستخبارات و سجن أبي غريب وغيرها،رغم إنه لا يعدو بأن يكون سوى شاهد من جهة وضحية من جهة أخرى، ما برحت تمتصّ وتتحسس أثارالوجع الأول المحكوم في لجج عناوين معادلة تصادفية شملت شوائب وجوده في دائرة من المتهمين بقضايا سياسية- حزبيّة تخالف من الناحيّة العقائديّة نهج النظام الحاكم-أنذاك-،تحديداً بعد إنهيار الجبهة الوطنية ما بين البعث والحزب الشيوعي العراقي، بنوازعها ووثوب تفاصليها المعروفة،وغيرها من ظروف و شوائك رافقتها ونتجت عنها،مما سبقها وتلاها و ترشّح من مطبات وإنهيارات على كافة الصُّعد ومجالات الحياة في عراق اليوم و الأمس القريب.
العنوان وشاحا
——————–
شاء أن توّشح عنوان رواية ” من قال إنني سأنسى- وأنا متقصّد في إشتماله بأن يكون في الختام،قرب الوصول من ختام هذاالمقال،لما أراه يشبه أو يقترب من إستباق الاجابة عن فحوى أنفاس السؤال الذي حمل نوعا من إستفسار،أوالتساؤول
“من قال….!!!”،لا أدري لماذا تلامعت في ذهني عبارة أدونيس الرامية بالقول؛”من أننا نعيش في زمن تتقدّم فيه الأجوبة وينهرم السؤال” ونحن في مستهل الوصول إلى جسّ وفحص مادة العتبة الأولى لهذا العمل المضني والخلاّق -معاً-،كون العنوان قد أنطوى على جملة خواطر وذكريات خشنة من مشاعر متضاربة ومتصارعة وفق أنساق نقيّة في ثوابت نهجها، صادقة بسمو نواياها،عميقة بمقاصدها،إذ حفل العنوان بنوع من نوازع إستفهام وإستغراب مسبوقة بسطوة تحدّي مرهون بالكثير ،،الكثير والمثير من نوادر الوفاء الواعي والحنين الطاغي لنبع تلك لذكريات المتسمة بهواجس النوع الحامي من السيرة الذاتيّة والتي أنتقى منها “علي السوداني” أربعة عقود عاشها كما أشرِنا سلفاً وأشرّنا، وكما يرد في نص التعريف المختصر بالرواية ومسالكها من خلال تقديم الناشر لها على متن الغلاف الاخير وهو يضيف بالقول؛” من الاحداث المسرة والمفجعة على الصعيدين الشخصي والجمعي”-،سيلمس مثل هذا ” والكلام لي” ويتحسس نبضاتها كل من سينتهي من قراءة الرواية ويتشّرب بمياهها العذبة والكدرة على حدِّ وصف ورصد وتقيّم حيثيات ومناهل عمل واقعي صرف،شاء أن يتعمّد بالصدق والغور في أدق تفاصيل ما نزعت الرواية إليها على طول وعرض أحداثها ومراميها والإكتواء بجمرات الذكريات التي لم تزل حامية متجمّرة في منابرعقل وضمير ووجدان ساردها وناسج وقائعها،وبما لا يحدّ أو يمنع من محاولات التثبث على تكثيف وترسيم حدود مقاصده،على نحو ما أقرّر”علي” على لسان”علاء”.
إقتراباِ من خاتمة
———————-
وبحكم ما سيدور من أسئلة وتعليقات وطرح أراء،فضلاً عمّا يليق بأسم حيثيات الحديث عن رواية تأريخيّة أتسقت مع مهمة كشف سلوكيات وممارسات وجوانب من ملفات وخفايا ما كان يتعرّض له السجناء من تعذيب و تنكيل وحطّ كرامة ومحق إنسانية الإنسان في سجون ومعتقلات النظام السابق،وعلى وفق ما دار وجرى وجاء في فصول أو أقسام هذه الرواية،تلك التي دانت وبلغت على نحو20قسما أو فصلاً، ترواحت ما بين ما هو ذاتي و شخصي،وما هو عام لتشكل في نهاية المطاف تجربة ثرية وحيّة ووثيقة تأريخيّة لمن ينوي ويريد دراسة تلك الحُقب والأحداث من تأريخ العراق المعاصر، وما يتعلق بجوانب من ماضيه القريب من متناول ذواكرنا اليقظة منها على وجه التحديد و الدقة والإنفتاح على ما ينتظرنا من مستقبل.
مشاهدة المزيد

شاهد ايضاً

بالفيديو… التعداد السكاني .. عرس وطني

02b1baf6-390f-4689-85e8-f04bb6ecb839 …