الكاتبة نعومي رائف
بعد سنوات طويلة عاشتها سوريا وشعبها تحت ظل الظلم، وفي ليلة وضحاها أستيقظ السورين على عهد جديد جاء دون سابق إنذار بسرعة لم يكن استيعابها سهلاً. وشهد الشعب السوري أحداثاً سريعة الوتيرة ومؤثرة بعمق على نفوس العائلات وخاصة الأمهات السوريات، فمع فتح السجون وإطلاق سراح المعتقلين، ضجت شوارع سوريا بصخب شديد بين الفرح والألم الممزوج بالغضب. وكان الفرح من نصيب الأبواب التي طرقها الأبناء الناجين من الاعتقال وعودتهم إلى بيوتهم وعائلاتهم أحياء حيث علت أصوات الزغاريد وأضاءت هذه البيوت مصابيحها احتفالا وسعادة. ولكن ما مصير أبواب البيوت الأخرى التي أشعل سكانها شمعة الأمل لسنوات طويلة بانتظار عودة فقيدهم. ولكن الخيبة كانت بطرق الفاجعة أبوابهم وقرعت أجراس الألم التي هبت عليهم كالصاعقة وأطفأت شمعة الأمل التي كانوا يستمدون منها القوة والصمود متشبثين بأملٍ صغيرٍ يسكن قلوبهم. حيث أن وراء تلك الأبواب نساءٌ فقدت أزواجها وأطفالٌ لم تسمح لهم الفرصة أن يكبروا جانب أباءهم وربما بعضهم لم يعرفه قط. كما أن هناك أباء تم اعتقال أبنائها أمام أعينها ولم يستطيعوا الدفاع عنهم أو إنقاذهم من مخالب النظام الظالمة ولم يكن بوسع تلك الاباء إلا الجلوس منكسرين في منازلهم يراقبون الأبواب علها تقرع بطرقات فرح. ولكن النصيب الأكبر من الألم كان للأمهات السوريات حيث أن قصصهن ومعاناتهن من أوجع القصص التي سطرها النزاع السوري.. وربما من المتعارف عليه أن الطفل حتى لو أصبح شابا سيبقى صغير والدته. الذي يشغلها حاله حتى في الأمور البسيطة. إن لم يكن قد أكل جيدا أو ربما شعر بالبرد قليلا. تخيل كم قدر القوة والمكابرة التي قد تحتاجها هذه الأم في كل ليلة حتى لا تسقط منهارة وأحد أبنائها ينام سنينًا في المعتقلات لا تعرف عن حاله شيئًا ولكنها تواسي نفسها وتصبر قلبها بالدعاء ليعود غائبها سالما إلى أحضانها. والآن علينا أن ننعى لها خبر وفاته من داخل تلك المعتقلات وسلبها أملها الذي أبقاها شامخة حتى الآن.. وما هو أقسى من ذلك والذي كان بمثابة الضربة القاضية لها هي الحقيقة التي خرجت من خلف أبواب تلك المعتقلات والسجون والكشف عن المعاناة والتعذيب الوحشي الذي كان يعانيه هؤلاء المعتقلين في الداخل وفقد أغلبهم لحياته تحت التعذيب الوحشي. وربما مع كل لقطة قام الإعلام بتصويرها ونقلها للجماهير من داخل تلك السجون واستعراض أدوات التعذيب اللإنسانية. لا بد أن هذا المشاهد لم تمر مرور الكرام عليه بل كانت وسيلة لتجسيد رؤية قاتمة في خيال هؤلاء الأمهات عن طريقة تعذيب وموت أبنائهن، وهو أمر لا يمكن تخيل صعوبته فهذه المشاهد هزت كيان الشعب السوري بأكمله فكيف يكون وقعها في قلب أم.
ربما كانت هناك فرحة كبيرة خرجت من خلف تلك القضبان ولكن ما خرج معها من ألم وفاجعة لم يستطع العقل البشري استيعابها بعد وكان له النصيب الأكبر في ذاكرتنا وقلوبنا لن نشفى منها للأبد.