
بقلم: أمجد هيف
في التاريخ الإسلامي، هناك لحظات استثنائية تتداخل فيها السياسة بالدين، ويجتمع فيها النص المقدس مع السياق الواقعي. حادثة غدير خم هي واحدة من هذه اللحظات، التي أثارت جدلاً مستمرًا حول معنى ومرامي البيعة التي قام بها النبي محمد صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب عليه السلام، والتي قال فيها:
“من كنت مولاه فهذا علي مولاه”.
لم يكن اختيار النبي صلى الله عليه وسلم لموقع غدير خم عشوائيًا، بل جاء بعد حجة الوداع، في مكان تجمع فيه قوافل الحجيج، حيث كان عدد المسلمين وقتها يقارب 120 ألف مسلم، من مختلف القبائل والمناطق. هذا الحشد الكبير، بمثابة شهادة على أهمية الحدث، كما أن تضاريس المكان، التي تميزت بخصائص فنية فريدة تساعد على انتقال الصوت بوضوح، جعلت الخطبة تتردد أصداؤها بشكل طبيعي، فكان الصوت يصل إلى أبعاد بعيدة، الأمر الذي أعطى للخطاب النبوي قوة إضافية، سواء على الصعيد المادي أو الرمزي.
وكان من بين الصحابة الذين شهدوا هذا الحدث العظيم: أبو بكر الصدِّيق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن عبادة، وأبو هريرة، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وغيرهم من كبار الصحابة الذين شكلوا نواة المجتمع الإسلامي المبكر.
إضافة إلى ذلك، كان الشعراء من قبائل مختلفة حاضرين، حيث كان الشعر يشكل جزءًا من الثقافة والتعبير في ذلك الوقت. من أبرز الشعراء الذين كانوا مقربين من الصحابة أو يرد ذكرهم في سياق الحجاج: حسان بن ثابت، شاعر الرسول، الذي كان يمدح النبي وأهل بيته، وأيضا كعب بن زهير الذي أعلن إسلامه بشعره المعروف “بانت سعاد”، إضافة إلى جرير والأخطل الذين مثلوا إرث الشعر العربي الإسلامي المبكر.
تؤكد الآيات القرآنية التي نزلت آنذاك، ومنها قوله تعالى:
﴿يا أيها الرسول بلّغ ما أُنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته والله يعصمك من الناس﴾ (المائدة: 67)
أن هذا الإعلان كان نقطة اكتمال للرسالة، لكنها في الوقت نفسه تضع الباحث في مواجهة تحدي فهم الخطاب النبوي في سياقه التاريخي.
إن دراسة هذه الواقعة لا تنحصر في قراءة النص فقط، بل تتطلب الغوص في تفاصيل المكان، والزمان، والظروف التي أحاطت بالحدث، إلى جانب مواقف الصحابة، التي كانت أكثر تعقيدًا مما تبدو على السطح. فالحادثة تجسّد جدلية النص والتأويل، بين ما قيل وما فُهِم، وبين من شهدوا وما حدث بعد ذلك من انقسامات سياسية.
هذا العمق يجعل من غدير خم ليس مجرد ذكرى تاريخية، بل مرآة تعكس صراعًا فكريًا وسياسيًا لم ينتهِ، وتحديًا مستمرًا لفهم النصوص المقدسة في ضوء الوقائع، مما يحثنا على إعادة قراءة التاريخ بعين ناقدة، متفهمة، ومتسامحة.
في نهاية المطاف، تظل حادثة غدير خم من أكثر اللحظات التي تكشف لنا تعقيدات العلاقة بين النص والتأويل، بين الوصايا النبوية والواقع السياسي المتحول. فبينما أُعلن علي بن أبي طالب مولى ووليًا أمام جمع غفير من المسلمين، لم تسلم هذه البيعة من التباينات التي أفرزتها الظروف السياسية والاجتماعية بعد وفاة النبي ﷺ.
هذه الجدلية تذكرنا بأن فهم التاريخ ليس فقط قراءة لما قيل، بل أيضًا لاستيعاب ما فُهِم وكيف تم التفاعل معه عبر الأجيال، وكيف يمكن لهذا الفهم أن يتغير بتغير الظروف. من هنا، تبرز أهمية العودة إلى النصوص والأحداث بروح نقدية وبحثية، تحترم السياق وتُمعن في التفاصيل.
غدير خم ليست مجرد حادثة في سجل التاريخ، بل هي نافذة لفهم جوهر الخطاب الإسلامي وتحدياته، ورسالة مستمرة لكل من يسعى لفهم التاريخ بموضوعية وصدق.
وفي ختام هذا البحث، يطرح السؤال المفتوح الذي يعيدنا إلى جوهر المشكلة:
إذا كان في حجة الوداع وفي بيعة غدير خم من الصحابة والشعراء الكفاية لنشر الدعوة الإسلامية وتثبيتها، فلماذا وقع الاختلاف على الولاية؟
هذا السؤال يبقى مفتوحًا أمام التأمل والبحث، وهو دعوة صادقة لكل من يريد أن يفهم التاريخ الإسلامي بموضوعية، بعيدًا عن التأويلات التي قد تخدم مصالح سياسية أو مذهبية.