بقلم: امجد هيف
من قلب مسرح النشاط المدرسي في ميسان، حيث لا تُرفع الستارة فحسب، بل تُستعاد الحياة، يقف شبابٌ يؤمنون بأن الفن ليس ترفًا، بل فعل مقاومة ناعمة وسط مدينة مثقلة بالظروف. رغم اكتظاظ القاعة وصعوبة التنفس، نجح هؤلاء في صنع مسرحهم، حاملين نصوصهم وأجسادهم وأوتار آلاتهم، ليقولوا بصوت واحد: الفن أقوى من الخوف.
في الوقت الذي يلجأ فيه البعض إلى السلاح لبث الرعب، يختار هؤلاء الشباب المسرح والموسيقى لزرع السلام، فيتغلغل صوت المزمار ووتْر العود والكمان ليملأ المكان روحًا وطمأنينة. هنا ميسان، هنا الإبداع، هنا الفن.
ضيق المكان… لكن الحلم أكبر
لكن الخلل ليس في الموهبة أو الرغبة، بل في ضيق المكان. فالشباب يمتلكون الرؤية والطاقة والوعي، لكنهم يصطدمون بعقبة أساسية: لا توجد مسارح تحتضن أحلامهم. الفن بلا فضاء، والموهبة تُختبر في أماكن مؤقتة لا تليق بحجم الطموح.
ميسان ليست غريبة عن المسرح. ففي عام 1917، أُقيم أول عمل مسرحي في قضاء قلعة صالح لجمع الأموال لبناء مدرسة، ما يؤكد أن المسرح في هذه المدينة وُلد مشروعًا لبناء المجتمع وليس مجرد عرض عابر.
إرث مستمر من الإبداع
اليوم، يواصل مخرجون مثل خالد علوان هذا الإرث، مقدمين أعمالهم على خشبات النشاط المدرسي، ليكشفوا جمال الأداء الشبابي من أبسط الإمكانات، ويقدّموا للعالم صورة ميسان الأخرى: مدينة تلد الإبداع رغم شح الأدوات.
ومع أسماء مثل فاضل البياتي وسعدية الزيدي، تتضح الحقيقة أكثر: العمارة مدينة مثقفين ومبدعين، لكنها بحاجة إلى قرار شجاع يعيد للفن مكانه الطبيعي.
وليس هذا المسرح هروبًا من الواقع، بل مواجهة أخلاقية له.تبعث مسرحية «ريلز»، التي صنعها علي كريم اليوم، رسالة واضحة من دون خطاب مباشر:. فأن تكون إنسانًا يعني أن تحترم و تلتزم بالقانون، وتتعامل بأخلاق حتى في غياب الرقابة.
هكذا، يتحوّل العرض المسرحي إلى درسٍ في السلوك المدني، وإلى وعيٍ يُزرع بهدوء في وجدان المتلقي
الفن… درع الحماية للشباب
هذه هي العمارة الحقيقية: مدينة يضيق عليها المكان، لكن لا يضيق فيها الحلم، مدينة يكتب جمالها أبناؤها. لكن الواقع المؤلم أن الفن والمسرح ما زالا مهمشين، والمواهب الشابة تُختبر في أماكن مؤقتة لا تليق بحجم طموحهم. إذا لم تُمنح هذه الطاقات فضاءها الطبيعي، وإذا لم يُرفع الستار عن مسرح حقيقي يحتضن الإبداع، فإلى أين سيلجأ هؤلاء الشباب؟ هل إلى الفراغ؟ أم إلى مسارات أخرى قد تحرف طاقاتهم عن البناء والإبداع؟
الفن ليس ترفًا، بل هو حماية الروح، وسلاحٌ للوعي، وطريقٌ لإبراز هوية المدينة الحقيقية. هو الوسيلة التي تجعل الشباب يقفون على خشبة الحياة بدل الانحراف، ويختارون الإبداع بدل الفراغ، والسلام بدل العنف. كل يوم يمرّ دون أن يجد الفن مكانه، تضيع فرصة أخرى لبناء جيل قادر على التعبير، على التأثير، وعلى النهوض بالمدينة.
رسالة واضحة للسلطات
عروض فناني ميسان لا تقدّم الفن فحسب، بل رسالة واضحة إلى الحكومة المحلية: نحن هنا، نبدع، ونحتاج إلى مسرح يحتضن أحلامنا، ويمنح الفن دوره كقوة وعي لا تقل أثرًا عن أي سلاح.
دعوة عاجلة للمجتمع والسلطات
لهذا، على السلطات المحلية والمجتمع بأسره أن يتحركوا الآن، دون تأجيل، لإعادة الفن والمسرح إلى مكانهما الطبيعي. يجب أن يُخلق فضاء يليق بأحلام الشباب، ويمنحهم منصةً حقيقية لتجربة مواهبهم، ليتعلموا من خلالها العمل الجماعي، الانضباط، والإبداع. إنه استثمار في المستقبل، وفي حياة شباب يملكون الطاقة والرؤية، لكنهم بحاجة إلى الفرصة.
إن تجاهل الفن والمسرح ليس مجرد إهمال، بل هو إضاعة للطاقات، وتحويل مدينة نابضة بالحياة إلى فضاء يضيق بالفرص. ميسان مدينة الإبداع، وموهبتها لا تنتظر. حان الوقت لرفع الستار، وتوسيع المكان، وإتاحة الفرصة للشباب ليكتبوا بأيديهم فصلاً جديدًا من جمال مدينتهم، فالفن هو القوة الحقيقية التي تصنع المستقبل.

