حين تتحوّل اللغة إلى حياة يكون العالِم امتداداً لها

1
62

حين تمشي الضاد بيننا… عبد الحسين حدّاد لا يغيب

بقلم : امجد هيف

في يوم الضاد، لا تميل نفسي إلى الاحتفال بالحرف بوصفه رمزاً لغوياً مجرّداً، بل أراه وجهاً لإنسانٍ عاش العربية حتى صارت جزءاً من نَفَسه اليومي. ولهذا، كلّما حضر هذا اليوم، عاد إليّ اسم الدكتور عبد الحسين حدّاد، لا بوصفه عالِماً فقط، بل بوصفه تجربة حياة كاملة كُتبت بالضاد.

لم يكن عبد الحسين حدّاد من أولئك الذين يقفون عند حدود المنهج أو القاعة أو اللقب الأكاديمي. كان أوسع من ذلك كلّه. كان يرى اللغة وهي تمشي بين الناس، وتختبئ في الأمثال، وتظهر في الشعر، وتشتبك مع الأخلاق، وتنكشف في التاريخ. ولهذا لم يتعامل معها أبداً كوظيفة، بل كقدر.

كتب كثيراً، وضاع كثيرٌ ممّا كتب. بعض مؤلفاته لم يُتح لها أن تُنشر، ولا سيّما تلك التي أنجزها إبّان عمله في ليبيا، في جامعة الفاتح، مثل كتابيه: «الأدب العباسي» و«تاريخ النقد الأدبي عند العرب». وهناك بحوث ودراسات أخرى كتبها مع زملائه من الأساتذة العراقيين في تلك المرحلة، حملوا العربية معهم خارج الوطن، ودرّسوها في الغربة كما لو كانوا يدافعون عنها.

أمّا ما وصل إلينا اليوم، فهو ما تبقّى من جهدٍ طويل لا يُقاس بعدد الصفحات. كتبٌ طُبعت، وبحوثٌ نُشرت، وديوانٌ شعري ما يزال في طور الطباعة، وتفسيرٌ للقرآن الكريم لم يكتمل بعد، لكنّ عنوانه أُعلن، وفكرته نضجت، وما زالت أوراقه تنتظر لحظة الخروج. ويظلّ كتاب «الأوثان والأصنام: دراسة ثقافية» شاهداً على جرأته في قراءة الموروث من الداخل، بلا خوف ولا مجاملة.

كان مولعاً بالشعر القديم، لا المشهور وحده، بل المنسيّ أيضاً. تتبّع أصوات الشعراء الجاهليين، وقرأهم بعين الناقد لا بعين الراوي فقط. كتب عن الحيّز المتحرّك في شعر امرئ القيس وعمر بن أبي ربيعة، ودرس ظاهرة الترصيع في شعر ما قبل الإسلام، وتوقّف عند الغموض في الشعر العربي الحديث، وشارك في مشروع لملمة التراث الشعبي، وكتب في مجلة التراث الشعبي، وحضر مؤتمراتٍ ثقافية منذ ثمانينيات القرن الماضي. كان حاضراً حيثما وُجد سؤالٌ حقيقي عن الثقافة؛ وهكذا تكون مسيرة عالمٍ عاش العربية لا بوصفها مادة، بل بوصفها حياة.

دخل كلية الشريعة – قسم اللغة العربية – في جامعة بغداد، فجمع بين علوم التراث الإسلامي وعلوم اللغة والأدب والنقد. وحين وصل إلى الدراسات العليا، لم يكن يبحث عن شهادة، بل عن أدواتٍ أدقّ للفهم. أنجز رسالة الماجستير سنة 1980 بعنوان «القيم الخلقية والاجتماعية في شعر ما قبل الإسلام»، ثم أطروحة الدكتوراه سنة 1989 بعنوان «شعر قبيلة سليم في عصر ما قبل الإسلام»، وبدأ مشروعاً علمياً شاقاً في جمع شعر بني سليم، فاستخرج شعر أكثر من ثلاثمئة شاعر، متّبعاً مناهج الأوائل، ومتتبعاً حضور القبيلة عبر العصور. غير أنّ الموت كان أسرع من اكتمال المشروع.

في حياته اليومية، كان عبد الحسين حدّاد حالة ذهنية نادرة؛ سريع الحفظ، شديد الانتباه، يقرأ الكتاب في يوم، وأحياناً في نصف يوم، وتبقى منه نصوص حاضرة في ذهنه لا كاقتباسات، بل كأفكار حيّة. وكنتُ – ولا أزال – أشبّهه بالجاحظ، لا لأنّ التشبيه جميل، بل لأنّه دقيق.

وأنا أكتب عن هذه المسيرة، لا أستطيع أن أتجاوز حقيقة أراها وألمسها يوماً بعد آخر: أنّ هذا الطريق لم يُترك يتيماً بعد رحيله. فثمّة من يمضي به اليوم، لا ادّعاءً ولا وراثة اسم، بل معرفةً وسلوكاً ومسؤولية. أتحدّث هنا عن الدكتور علي عبد الحسين حدّاد، أستاذ النقد والعَروض في جامعة ميسان، وأحد أعمدتها العلمية التي لا تُرى في العناوين وحدها، بل تُلمس في القاعة، وفي عقل الطالب، وفي طريقة التفكير.

أراه وهو يدرّس، فأستعيد صورة الأستاذ القديم؛ ذاك الذي كان يصبّ العلم صبّاً، لا يساوم عليه، ولا يختصره، ولا يقدّمه مجزّأً. الدكتور علي لا يلقّن، بل يربّي ذائقة، ويؤسّس منهجاً، ويعلّم الطالب كيف يسأل قبل أن يجيب. وفي كلّ مرّة أتابع أثره في طلبته، أشعر أنّ عبد الحسين حدّاد لم يغادر القاعة فعلاً، بل غيّر مكان جلوسه فقط.

ليس الأمر تشابهاً في الاسم، ولا صلة دمٍ فحسب، بل صلة عقل وروح. فالعلم الذي يتدفّق اليوم في قاعات جامعة ميسان هو الامتداد الطبيعي لما تعلّمه هو يوماً على يد أستاذه ووالده، عبد الحسين حدّاد. المنهج ذاته، الصرامة نفسها، الاحترام العميق للغة، والإيمان بأن الضاد لا تُدرَّس بلا أخلاق.

لهذا، حين أفكّر في هذه السلسلة المعرفية، لا أشعر بالحسرة الكاملة. ثمّة غياب، نعم، لكن ثمّة حضورٌ أيضاً. حضورٌ يطمئنني أنّ المسيرة لم تتوقّف، وأنّ ما زُرع قبل عقود ما يزال يُثمر، وأنّ العلم – حين يكون صادقاً – يعرف كيف يجد من يحمله.

وفي يوم الضاد، وأنا أضع النقطة الأخيرة، لا أشعر أنّني أكتب عن حروفٍ أو مناهج أو أسماءٍ غابت، بل عن أثرٍ ما يزال حيّاً. أشعر أنّ اللغة، حين تجد من يحبّها بصدق، تعرف كيف تحمي نفسها بنفسها، وتورّث روحها قبل قواعدها

مشاهدة المزيد

شاهد ايضاً

من ضيق المكان إلى اتساع الحلم .. شباب ميسان يكتبون قصة الإبداع بالموسيقى والمسرح

بقلم: امجد هيف من قلب مسرح النشاط المدرسي في ميسان، حيث لا تُرفع الستارة فحسب، بل تُستعاد …