
دريد توفيق
في كل انتخابات، تُطرح تساؤلات جوهرية تتعلق بسلامة ونزاهة العملية الانتخابية، وتُثار شكوك حول القرارات الفنية والإدارية التي قد تؤثر على مسار الاقتراع ونتائجه. ومن بين هذه القرارات المثيرة للجدل، يأتي إيقاف استخدام الحبر الانتخابي بذريعة “الأسباب المادية” كأحد أبرز الأمثلة على ما لا يمكن تفسيره على أنه مجرد قرار إداري بريء.
لقد قلنا مراراً إن أي “خطأ فني” في الانتخابات لا يُفسَّر كخطأ بريء، بل كفعل متعمد، لأن هناك دائماً جهة مستفيدة وأخرى متضررة. لذا، فإن تغليب حسن النية في تفسير القرارات الانتخابية أمر غير واقعي في بيئة سياسية تتسم بالصراع والمنافسة الحادة، وغالباً ما تكون الثقة بين الأطراف المعنية شبه معدومة.
عندما طُرح موضوع تركيب الكاميرات في مراكز الاقتراع، قيل إن “الأمن الانتخابي أهم من الكلفة المالية”، وكان هذا التبرير مقنعاً في حينه. لكن، لماذا لا يُطبق المبدأ نفسه عندما نتحدث عن الحبر الانتخابي؟ هل الأمن الانتخابي مهم فقط عندما يخدم مصالح معينة، ويصبح عبئاً حين يُهدد احتمالات التلاعب؟
إلغاء استخدام الحبر الانتخابي، أو “رفع التحبير”، لا يمكن اعتباره قراراً محايداً. بل هو إجراء يفكك إحدى أدوات التحقق الميداني من نزاهة الاقتراع، ويضعف مصداقية العملية برمتها، خاصة في ظل تصاعد الحديث عن وجود “توأمة” بين المحطات الانتخابية – وهو ما كنا نرفضه دائماً باعتباره من قبيل نظرية المؤامرة، لكن يبدو اليوم أننا نقدم ما يعزز هذه الشكوك بدلاً من دحضها.
عند النظر إلى تجارب الدول الديمقراطية، نلاحظ أن الحبر الانتخابي لا يزال يُستخدم، رغم كل التقدم التكنولوجي الذي وصلت إليه هذه الدول. لأنه ببساطة يؤدي وظيفتين محوريتين، الأولى أمنية لمنع التكرار في التصويت والتأكد من أن من صوّت قد مارس حقه بالفعل، والثانية إعلامية وتحفيزية، حيث يشكل علامة بصرية رمزية تعزز المشاركة وتشجع الآخرين على الاقتراع. إذن، الحبر ليس مجرد مادة تُوضع على الإصبع، بل هو أداة تحقق ورمز ديمقراطي في آنٍ واحد.
أما من الناحية الصحية والعلمية، فإن الحبر الانتخابي يتكون من مواد معتمدة دولياً، أبرزها نترات الفضة، التي تصبغ الجلد عند تعرضه لأشعة الشمس وتبقى ظاهرة حتى تجدد خلايا الجلد. وتتراوح تركيزاتها عادة بين 10% و18% حسب الحاجة إلى بقاء الأثر. كما يحتوي الحبر على صبغة ملونة لتمييزه بصرياً، ومذيب كحولي لتسريع الجفاف، ومضاد حيوي لمنع انتقال العدوى بين الناخبين. وبهذا، فهو يُعد آمناً صحياً ولا يشكّل خطراً على الصحة العامة، وكل ما يُطلب من الناخب هو غسل يديه بالماء والصابون دون استخدام مواد كيميائية قاسية.
وإذا استبعدنا التفسير الفني والصحي والمالي، يبقى السؤال الجوهري مطروحاً: من المستفيد من إلغاء استخدام الحبر الانتخابي؟ هل هو الناخب؟ بالتأكيد لا. هل هي الدولة؟ لا دليل على ذلك. إذن، يبقى المستفيد الحقيقي جهة تخشى من الأدلة الملموسة على التصويت المتكرر أو التزوير، وتفضل أن تظل العملية بلا أثر مادي يوثق المشاركة.
في عالم الانتخابات، ليست التفاصيل مجرد تفاصيل. والحبر الانتخابي ليس مجرد صبغة، بل هو خط دفاع أول عن نزاهة الديمقراطية. وأي قرار يُتخذ لإلغائه يجب ألا يُناقش من زاوية الكلفة فقط، بل من زاوية الأثر والرمزية والثقة العامة. السكوت عن هذا القرار هو تواطؤ غير مباشر في إضعاف العملية الانتخابية. وعلى الجهات المعنية أن تعيد النظر فوراً، لأن النزاهة لا تُقايض بالتقشف.